الذي جاء متأخرا ورحل باكرا

الذي جاء متأخرا ورحل باكرا



أحمد عدنان - العرب اللندنية



بدأ عهد عبدالله بن عبدالعزيز قبل توليه الحكم بنحو ست سنوات، كان المرض قد استبد بسلفه الملك فهد إلى درجة العجز، فظهرت صورة وليّ العهد كرجل آلت إليه الأمور قبل أوانها، لكن طبائع الظروف لم تتح له الانفراد بالمشهد في ظل حضور النائب الثاني ووزير الدفاع (الأمير سلطان) إضافة إلى وزير الداخلية القوي (الأمير نايف)، وما اقتضته الضرورة من إطلالات للأمير عبدالعزيز بن فهد، ومع ذلك طغت صورة عبدالله على الجميع.

بدأ عبدالله يتسرب رويدا رويدا إلى قلوب السعوديين بأسلوب جديد يعبّرُ عن كاريزماه العفوية، فبدأ زياراته للتجمّعات الشعبية، يتحدث مع الناس ويأكل معهم ويتسوق مثلهم، كما أنه أطلق تصريحات مفاجئة حتى للنخبة الحاكمة، منها تصريحه الشهير بأن “المرأة السعودية يجب أن تنال حقوقها”، بعدها اجتمع الأمير نايف بالعلماء مصرّحا “ولي العهد لا يقصد تجاوز الإسلام الذي كفل للمرأة حقوقها، وتصريحه فُسّر على غير مقصده”، كما صرح عبدالله في إحدى القمم الخليجية واضعا يده على الجرح “زمن الطفرة انتهى، وآن الأوان لنلتفت إلى الاستثمار في الإنسان ونركز على الإصلاح” ليغيب، بعدها، عن تمثيل المملكة في انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح النائب الثاني. أعادت هذه الحوادث إلى أذهان السعوديين ما جرى قبلها بنحو ثلاث سنوات، كان الملك فهد قد أصدر قرارا يفوّض ولي عهده بإدارة شؤون الدولة بسبب ظروفه الصحية، لكنه عاد بعد أشهر وشكر ولي العهد على جهوده لأنه استعاد صحته، والكلّ يعلم بأن هذا غير صحيح.



جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتتيح لعبدالله ظهورا جديدا، كان الظرف عصيبا على المملكة لأنها تحت تهمة الإرهاب، اجتمع عبدالله بالنخب المختلفة من علماء ومعلمين وعسكريين، واجه واقعه بشجاعة وأعلن خطورة الموقف، طالب بالتكاتف وبمراجعة النفس وأكد على التقدم إلى الأمام، حينها تعلق المواطنون به أكثر، فالدولة بدت أحيانا في حال سيولة أكثر من اللازم، وفي أحيان أخرى بدت في حال جمود لا يطاق، وجاء ولي العهد كرمز استقرار ونهضة لدولة تائهة من دون أن تبرح موقعها.



بعد أحداث سبتمبر، كانت إطلالات عبدالله تضخّ الروح في ملامح الشيخوخة والهرم التي كست ملامح الجهاز الحكومي، فأطلق مبادرته للسلام التي جسّدت ألمعية فريدة في مسيرة السياسة الخارجية السعودية، استطاع عبدالله بهذه المبادرة أن يزيح بعض الشيء صورة الإرهاب عن بلاده وأن يعيدها، في المسرح الدولي، إلى موقع المبادرة بدلا من خانة الدفاع.



توالت لمسات عبدالله على الحياة السياسية السعودية لتكرسه رمزا للإصلاح، فمن مبادرة الحوار الوطني، التي سلبت السلفية الوهابية أحاديتها المسيطرة عبر الاعتراف الرسمي بمختلف مستويات التنوع الداخلي، إلى مبادرة مكافحة الفقر التي اعترفت بمشكلة مخجلة بالنسبة إلى أثرى دول النفط، مرورا بقرارات وُقّعت باسم الملك فهد، كالموافقة على تأسيس أول جمعية أهلية لحقوق الإنسان وإنشاء هيئة حكومية لنفس الغرض، إضافة إلى تفعيل نظام الانتخابات البلدية، بعد دخول الولايات المتحدة إلى العراق، الذي عطّله الملك فيصل، والاعتراف بأهلية المرأة عبر تشريع إصدارها لبطاقة الهوية بعد دخول الولايات المتحدة إلى أفغانستان. وفي هذا السياق، استقبل عبدالله نخبة مثقفة تقدمت له بعريضة تطالب بالإصلاح عام 2003، وقال لهم “رؤيتكم رؤيتي ومطالبكم مطالبي”، وفوجئ المواطنون بخطاب ثوري في مجلس الشورى، باسم الملك فهد، يتحدث عن الإصلاح الشامل وأهم بنوده الإصلاح السياسي.



تولى عبدالله زمام أمور الملك بعد وفاة الملك فهد عام 2005، بدا العاهل الجديد مدركا تماما لمعنى صورته في التاريخ وحريصا عليها، تزامن ذلك مع الطفرة الثانية في إيرادات المداخيل النفطية، فترجم ذلك إلى مشاريع تعزّز قيمة الدولة وتعود بالنفع على شرائح المواطنين المختلفة، من إعلانه عن المدن الاقتصادية العملاقة، مرورا بإحياء مشروع الابتعاث وتمكين المرأة، إلى ضخّه المليارات في مشاريع إصلاح القضاء والتعليم وتوسعة الحرمين الشريفين، ولا أنسى هباته المليارية لمساعدة المحتاجين، عبر وزارة الشؤون الاجتماعية، ودعم الأندية الرياضية والأدبية والتعليم الجامعي والاهتمام بقضيتي الإسكان والبطالة.



بدا عبدالله ملكا أخذ شيئا من كل أسلافه، فهو من أعاد هيبة الدولة وجدّد نشاطها وحيويتها وحضورها الإقليمي كما كان عبدالعزيز مؤسسا، وهو صاحب الطموح الوثّاب كما كان سعود حسن النوايا، وهو الدقيق في اختيار رجاله من أمثال خالد التويجري وخالد العيسى ومحمد العيسى وإياد مدني وعبدالعزيز خوجة وتوفيق الربيعة وعادل فقيه وعبداللطيف آل الشيخ كسيرة فيصل، وهو طيّب القلب لدرجة بكائه أثناء احتضان ابنة شهيد من قوات الأمن، ومبارك الحضور الذي عاصر السعوديون خيراته الاقتصادية مثل خالد، وهو حازم السياسة وحكيمها على خطى سلفه فهد.



تميّز عبدالله بشجاعة فذة، فهو من أسس هيئة البيعة لتضبط معايير الخلافة في المملكة، وأسس عرفا جديدا، استثنائيا، في البلاد بتعيين ولي لولي العهد من أصغر أبناء الملك عبدالعزيز (الأمير مقرن) بعد إعادة هيكلة الأسرة، ليضمن حقبة جديدة لبلاده بتسليم الإدارة لأحفاد عبدالعزيز في المستقبل المنظور وليرسّخ منهاجه في الاستقرار.



كما أنه عزز مبدأ المواطنة بتعيين وزير من الطائفة الإسماعيلية الكريمة، وواجه الإرهاب بكل إقدام وثبات على المستوى الأمني عبر سيفه محمد بن نايف، ثم واجه الشق الفكري الداخلي بمبادرات متنوعة كالحوار المذهبي وحوار الأديان وتقريب أصوات الاعتدال والتسامح من رجال الدين وتقليم الأظافر القاسية لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (لدرجة أن رجالها أصبحوا تحت المحاسبة ويعتذرون إذا أخطأوا) ومحاولة إضفاء التنوع السني على هيئة كبار العلماء والاستماع إلى الفقه المعاصر في قرارات الدولة حتى لو خالف المؤسسة الدينية الرسمية (كما في قضايا المرأة وتوسعة المسعى وغيرها)، لذلك لجأ المتطرفون إلى مهاجمة رجاله، باتهامات التغريب وإفساد المجتمع، بدلا منه لهيبته ولشعبيته.



كان عبدالله مباركا في معاركه، فالثورات والموت تكفّلا بكل خصومه ومزاحميه، فمعمّر القذافي الذي حاول اغتياله مات بأبشع طريقة ممكنة، وبشار الذي حارب مصالح المملكة في كل مكان خرجت عن سيطرته سوريا باستثناء قصره، ونظام نوري المالكي تمزّق في العراق، وحكم الإخوان المصري الذي أراد تغيير هوية المنطقة وشكلها أطاح بهم الشعب الذي جلبهم. ومع ذلك فإن عبدالله باغته أحيانا سوء الحظ، فمن راهن عليهم من أشقائه ليكونوا سندا له خذلهم الزمن، فالوفاة أطاحت بماجد وبعبدالمجيد، والصحة غدرت بنواف، وعلاقته بطلال لم تستقر، وفوق ذلك لم يكن جهاز الدولة مطواعا، دائما، لرغباته خصوصا في بداية حكمه، فلجأ حين كان وليا للعهد إلى تأسيس المجالس العليا، كالمجلس الأعلى للاقتصاد الذي خبا بعد توليه الحكم، وانتقد مرارا تقصير الوزراء.



نسج عبدالله علاقة خاصة مع شعبه منذ كان وليا للعهد واستمرت إلى مقام الملك، فلو اشتبك المواطن مع موظف حكومي بسيط أو رجل مرور هدّد بالشكوى إلى عبدالله، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي، لاحقا، أتخمت استغاثة بالرجل الأول في الدولة، وهذا إن عكس خللا في بنية الجهاز الحكومي ومستوى كفاءة رجاله إلا أنه يشير، بلا لبس، إلى المحبة العامرة التي يحظى بها عبدالله وثقة شعبه بمقولته يوم تولى الحكم “سأضرب بسيف العدل هامة الظلم والجور”. كان عبدالله محظوظا بشعب ينسب له كل فضيلة، وهو يستحق، وما عداها ينسب لغيره حتما ودائما، وبغضّ النظر عن صحة مسؤولية الرجل الأول أو الثاني المباشرة عن كل تفاصيل عهده، لكن جل شعبه اختار تنزيهه عن كل نقيصة، في صورة نادرة لعلاقة الحاكم بالمحكوم، وإن كان عبدالله كغيره من الرجال يخطئ ويصيب.



بين حسن الحظ وسوئه تأرجحت مسيرة عبدالله، فالمدن الاقتصادية الكبرى لم يكتب لها النجاح المأمول، ومشروع إصلاح التعليم ما تحقق فيه دون المنتظر، ومشروع الإصلاح العدلي يسير ببطء وإن كانت حالة القضاء أفضل تقنيا وانضباطيا من السابق، والصراع على أشده داخل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين مشروعه الإصلاحي وبين القوى المتطرفة، ومبادرة إصلاح البيت العربي لم تطرح للدرس كما أن مبادرته التعليمية الأولى (حاسب آلي لكل طالب) لم تر النور مطلقا ومبادرته لمكافحة الفقر طواها النسيان، وحين حصلت كارثة سيول جدة وأعلن عن معاقبة الفاعل “كائنا من كان” لم ير الناس نتائج واضحة، ومشروع مكافحة الفساد ولد ميّتا، ونوايا معالجة الإسكان لم تترجم إلى حلول جذرية وقائمة.



كان سوء الحظ هذا مردّه تكالب الإرادات والظروف أو سوء اختيار الرجال، ومع ذلك لا أحد ينكر نجاحات عبدالله المذهلة، فمشروع الابتعاث بمثابة ثورة اجتماعية وتعليمية عمّت المملكة ككل بلا تمييز أو كلل، وشهد الإعلام وعرفت الصحافة سقفا تاريخيا رعاه عبدالله وحماه، كما أن جامعة كاوست تسير في طريقها كمنبر علمي محترم على الصعيد العالمي، وهناك منجز ملموس في مكافحة البطالة وضبط الغش التجاري وتحول المجتمع والخطاب الديني إلى الانفتاح والمعاصرة والاعتدال، وتمكين المرأة شهد قفزات نوعية وكمية لم يتخيّلها أحد آخرها إشراكها في مجلس الشورى، وحتى قطاعات التعليم والعدل حاضرها أفضل من ماضيها، والمشاريع التي تحمل اسمه عمّت البلاد. وهنا نشير إلى مهرجان عبدالله الثقافي (الجنادرية) الذي شكل همزة وصل بينه وبين نخبة العرب ومختبرا لمناقشة أفكاره ومتنفسا ترفيهيا لمجتمعه.



على صعيد السياسة الخارجية تأرجحت المملكة صعودا وركودا، ليتراوح ملكها حاكما لبلاده أو حاكما للشرق الأوسط برمته وهو الغالب، مع حفظ صورة عبدالله المؤمنة بالعروبة، لا القومية العربية، في مواجهة الإسلاموية والطائفية. لا يمكن الإشارة إلى القضية الفلسطينية دون التطرق إلى عبدالله ومساعيه للمصالحة بين فتح وحماس من خلال اتفاق مكة الذي لم يستمر صموده لأسابيع، ودعم الاعتراف بفلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة ودخولها إلى اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية، إضافة إلى مناصرته الدائمة للقضية سياسيا وماليا، ولبنان منحه عبدالله كل رعايته بدعم الدولة وتشجيع تيار السيادة والاستقلال ودوره المحوري في تأسيس المحكمة الدولية وإخراج قوات الوصاية السورية من لبنان ودعم عملته، لكن تلك النجاحات لم تستمر بسبب ظروف المنطقة وخذلان بعض الساسة اللبنانيين، ومن ينسى موقف عبدالله المشرف من الثورة السورية ودعم شعبها في مواجهة الاستبداد والإرهاب، وفي مصر خسر الملك حليفه مبارك لكن الإخوان سقطوا بثورة شعبية وقف معها عبدالله بكل قدرته المعنوية والمالية والسياسية، واليمن، رغم مستنقعاته الوعرة، حاول عبدالله إنقاذه بغطاء المبادرة الخليجية، وفي العراق طرح عبدالله مبادرة مصالحة لم يكتب لها التوفيق، فندم العراقيون وتزاحموا على الرياض لنيل رضا ملكها.



إن سياسة عبدالله الخارجية يمكن وصفها بعهد التصدي لإيران والإسلاموية ورفض الاستسلام لإسرائيل، يكفي أن المبادرة العربية للسلام ما زالت تتنفس والحرب على الإرهاب تتقدم.



إن أهم إنجازات عبدالله تتجلى في العلاقة الصادقة والمخلصة التي جمعته بشعبه لدرجة أنهم نسوا ما سبقه سريعا، لكنهم لن ينسوا عهده بسهولة ولن ينسوا شخصه أبدا، كما أنه أعاد لمفهوم الولاء اتزانه “ولاء الحاكم للمواطن واجب كولاء المواطن للنظام” وأعاد الحكومة إلى دورها الأساس “خدمة الناس” وقدّم كل ما يستطيع ليجسّد الهدف الأسمى للدولة “صيانة الحقوق وضمانة العدل وتوفير الأمن”، يكفي التراث الذي تركه مشروعا إصلاحيا يتجلى في مكافحة التطرف وترسيخ الاعتدال في إطار تجديد الخطاب الديني، تمكين المرأة، رفاه المواطن، انفتاح الإعلام، توسيع المشاركة الشعبية، الحوار مع الذات ومع الآخر، رفع مستوى الخدمات، إصلاح القضاء والتعليم، ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، إرساء قيمة المواطنة، استعادة الدولة وهيبتها، ومحاربة الفساد وتكريس الاستقرار والحرب على الإرهاب وعلى الاتجار بالدين.



من المؤكد أن ما تحقق أقل بكثير من طموح النخب، في محور الإصلاح السياسي خصوصا، ومن طموح عبدالله نفسه، لكننا يجب ألا ننسى أنه من ترجم النوايا الحبيسة في الصدور إلى أحلام تحلق في المخيّلة إلى المستقبل، ويجب ألا ننسى أن المعيار الزمني للدولة أهدأ من الإيقاع الزمني للنخب، والصعوبة التي يواجهها الحاكم ليكون رومانسيا هي نفس الصعوبة التي يواجهها المثقف، في أحيان كثيرة، ليكون واقعيا. لقد جاء عبدالله ملكا متأخرا عن زمنه لعقد من الزمان، وغادرنا مبكرا بنحو عقد آخر، وحكمنا عقدا مرَّ كلمح البصر، للأسف، ﻷننا لن نجد نظيره طموحا وشهامة وفروسية ونقاء وعزما ونوايا.



إن الحديث عن عهد عبدالله وشخصه لن تنصفه مقالة عابرة، لكن الحقيقة المُرّة هي أن خسارة عبدالله لا تعوض، فكل النوائب تهون مع مرور الوقت، لكن مصيبة فقد عبدالله تتعاظم. أسأل الله أن يسكن عبده عبدالله بن عبدالعزيز فسيح الجنات بلا حساب وبلا عقاب، إنا لله وإنا إليه راجعون.





صحافي سعودي







from منتديات السعودية تحت المجهر
سيو

0 التعليقات: