الرسوم الساخرة والقتل و«مشاعر المؤمنين»
الرسوم الساخرة والقتل و«مشاعر المؤمنين»
يوسف بزي - المستقبل اللبنانية
في العام 2012، تدافعت مرجعيات إسلامية شيعية وسنّية وتزاحمت، على طول خارطة الدول الإسلامية، صارخة ومحرضة ومشجعة على التظاهر والإحتشاد ضد صحف ووسائل إعلام غربية، داعية إلى القصاص منها بدعوى الإساءة إلى الإسلام ونبيِّه، وخصّ حسن نصرالله لهذه المناسبة خطبة ملتهبة ضد الغرب كله، مهدداً ومتوعداً، وحذا حذوه شيوخ وأئمة ومرجعيات فقهية من باكستان وأفغانستان إلى إيران وصولاً إلى موريتانيا ومروراً بمصر والسودان وصومال وغيرها، حضّت جميعها على الثأر وعلى الإنتقام. وترتب على هذه التعبئة التي طالت البلدان الإسلامية كافة، أعمال عنف وقتل وتخريب وهجمات على سفارات أجنبية وصدامات دامية، أبرزها الهجوم الوحشي على القنصلية الأميركية في بنغازي، بعد أشهر قليلة على انتصار الثوار الليبيين وسقوط نظام القذافي. وهو انتصار ما كان ممكناً لولا الدعم العسكري الأميركي المباشر.
وقبل ذلك، اختبرنا هنا في بيروت عام 2006، أفاعيل التحريض المنفلت من عقاله، حين دعى شيوخ وأئمة وأحزاب «إسلامية» إلى الاحتجاج على رسوم هزلية نشرتها صحيفة دانماركية، فتم اصطناع غضب عارم وشحن غرائز وحشد رعاع، هاجموا السفارة الدانماركية في حيّ الأشرفية فأعملوا فيها حرقاً، ثم انفجرت هستيريا الشغب والعنف، فعاثوا خراباً بالممتلكات العامة وهاجموا المارة وحطموا السيارات وأشعلوا الحرائق، ونشروا الرعب والإرهاب في هذا الجزء من العاصمة الذي تقطنه أغلبية مسيحية، وكللوا «غزوتهم» بالإعتداء على الكنائس القريبة. وترتب على هذه الحادثة آثار سياسية شديدة الوطأة على «التعايش» وسيكولوجيته الهشة. وتزامنت تلك الحوادث في أيلول 2006 أيضاً مع افتعال الأجهزة الأمنية السورية ومخابراتها لتظاهرة شبيهة في قلب دمشق، انتهت بإضرام النيران في المبنى الذي يضم سفارتي الدانمارك والنروج في العاصمة السورية، حيث يعرف الجميع كيف يتم فيها تدبير التظاهرات.
وكان الإمام الخميني، بُعَيد تجرعه «كأس السم» (أي قبول اتفاق وقف إطلاق النار، ونهاية الحرب الإيرانية العراقية)، قد أصدر في شباط 1989، فتوى بهدر دم الروائي البريطاني سلمان رشدي، مفتتحاً عهد القصاص الديني، الذي سرعان ما بات عرفاً شائعاً عند حركات الإسلام السياسي في العالم، كرّسته حركات الإرهاب والعنف، من أمثال «حزب الله» و»انصار الله» و»القاعدة» و»داعش» و»طالبان» و»حركة الشباب» الصومالية، وجماعات التكفير والهجرة في مصر ودول شمال أفريقيا..
وتسابقت طوال العقود الثلاثة، جماعات وأحزاب وتنظيمات ومرجعيات دينية إسلامية في حمى «التحريم» والقصاص، وفتاوى هدر الدم والخطف وقطع الأعناق والتفجيرات الإنتحارية وملاقاة «حوريات« الجنة، ورجم النساء وقتل تلامذة المدارس وأطفالها، واغتيال الصحافيين والكتّاب والسياسيين، قبل «غزوة نيويورك» 2001 وبعدها، وتفجير القطارات والأسواق في بغداد كما في مدريد ولندن.
ونجح الإسلام السياسي بأجنحته وأطيافه كلها في توطيد خطاب كراهية، لا يعرف سوى توليد الإرهاب وتبريره، بوصفه الرد الوحيد والمناسب على «الإساءة» المفترضة للإسلام ورسوله، وأن القصاص الدموي هو على سوية الإرتكاب المظنون.
وتأسس على هذا تناقض دائم بين الغرب والعالم الإسلامي، حيث ينحو الأول مبدأ حرية التعبير، والاحتكام إلى القانون والأعراف الديموقراطية، فيما نزع الجمهور الإسلاموي إلى مبدأ غامض هو «مشاعر المؤمنين» وشعار أكثر غموضاً هو منع «الإساءة».
في يوم الأربعاء الماضي، حين اقترف إرهابيون إسلاميون مجزرة «شارلي إيبدو» في قلب باريس، راح ضحيتها صحافيون فرنسيون، كان ردّ فعل سيدة لبنانية شديدة اللطف والدماثة، أن هذا جزاء من يتطاول على خاتم الأنبياء، متشفية بالضحايا: «هذا مصير الكفار». وتصريحها هذا المؤيد لفعلة الإرهابيين، ورغم تناقضه مع شدة تعاطفها مع ضحايا مجزرة المدرسة الباكستانية، أو تعاطفها العميق مع ضحايا مجازر بشار الأسد، إنما هو تناقض يكشف الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها قسم كبير من جموع المسلمين، الذين وإن استنكفوا أو امتنعوا عن أي فعل إرهابي، إلا أن وجدانهم ووعيهم السياسي يُستلهمان مباشرة من «خطاب الكراهية» الذي نشرته جماعات الإسلام السياسي طوال العقود المنصرمة، وتلكأت المؤسسات الدينية الرسمية عن مواجهته، بل سكتت عنه في معظم الأحيان، إن لم تنزلق أصلاً إلى منطق المزايدة في التشدد والغيرة الدينية. وعلى هذا تتكشف معضلة كبيرة بين منظومتي قيم: الأولى تُعلي من قدسية الحياة وحصانتها وتنحاز إلى «حرية التعبير» (بمعاييرها الغربية)، والثانية ترفع «مشاعر المؤمنين» (بمعاييرها الإسلامية) إلى مرتبة القانون الصارم، وتقدم مبدأ تحريم «ازدراء الأديان» على أي مبدأ آخر، ولو أدى ذلك إلى ازدراء حياة البشر وارتكاب القتل والإرهاب.
المعضلة بين «حرية التعبير» و»مشاعر المؤمنين» رغم انها بارزة بحدة بين العالم الإسلامي والغرب، إلا أنها أصلا معضلة قائمة داخل العالم العربي والاسلامي بالذات. فالإساءة إلى الدين والمقدس قد يصعب أحياناً كثيرة تعيين حدودها أو تفسيرها قانونياً بنص واضح، من دون الانزلاق إلى نزعة التحريم، التي ما ان تهيمن حتى تتحول الى «محاكم تفتيش» لا يسلم المؤمنون منها. فمن الموسيقى الى «مقابر الأولياء» إلى المسلسلات التلفزيونية، إلى فن النحت مثلاً، إلى كتابة الروايات على نسق ما كتبه نجيب محفوظ، الذي تلقى طعنة من «مؤمن» رأى في نصوص محفوظ كفراً. وفي خضم تصاعد النزعة المذهبية، فان كتباً دينية إسلامية يتم منعها في دول وهي مباحة في دول أخرى. وثمة مسلمون يستسهلون تكفير مسلمين آخرين لخلاف فقهي أو لاختلاف طقوسي.
مسلسل «عمر» (الذي عرض في شهر رمضان 2012) على أنه «حلال» كان عند مسلمين كثيرين «حراماً» ويمس مشاعرهم، طالماً أنهم شديدو الالتزام بحرفية تحريم التشخيص، خصوصاً النبي والصحابة والأئمة والخلفاء الراشدين.
ثم ان نزعة «التهذيب» أو التحريم، تخرج من الاطار الديني إلى الإطار السياسي والإجتماعي، فالتعبير الساخر الكاريكاتوري مثلاً في ظل الأنظمة العربية يجد نفسه أمام «مقدسات» السلطة الزمنية: الرئيس وزوجته، الوزراء، قواد الجيش والأمن... الخ. السلطة هنا ترتفع إلى مرتبة «دينية» من حيث التحريم والتعالي عن أي نقد. وهذا ما رسخ الثقافة الاستبدادية وعمّق الديكتاتورية على نحو جعل العالم العربي وبقاعاً واسعة من العالم الإسلامي «استثناء» مستعصياً على الديموقراطية والحريات.
المشكلة العميقة في نظام القيم عند الإسلام السياسي السائد في مجتمعاتنا، أن رسوماً ساخرة (لا تميت أحداً) تمس «مشاعر المؤمنين» جداً، في حين أن القتل الوحشي والعلني والجماعي، لا يحرك في تلك «المشاعر» ساكناً. وهذا بالضبط ما يفقرنا تعاطفاً من العالم ازاء نكباتنا وكوارثنا.
يوسف بزي - المستقبل اللبنانية
في العام 2012، تدافعت مرجعيات إسلامية شيعية وسنّية وتزاحمت، على طول خارطة الدول الإسلامية، صارخة ومحرضة ومشجعة على التظاهر والإحتشاد ضد صحف ووسائل إعلام غربية، داعية إلى القصاص منها بدعوى الإساءة إلى الإسلام ونبيِّه، وخصّ حسن نصرالله لهذه المناسبة خطبة ملتهبة ضد الغرب كله، مهدداً ومتوعداً، وحذا حذوه شيوخ وأئمة ومرجعيات فقهية من باكستان وأفغانستان إلى إيران وصولاً إلى موريتانيا ومروراً بمصر والسودان وصومال وغيرها، حضّت جميعها على الثأر وعلى الإنتقام. وترتب على هذه التعبئة التي طالت البلدان الإسلامية كافة، أعمال عنف وقتل وتخريب وهجمات على سفارات أجنبية وصدامات دامية، أبرزها الهجوم الوحشي على القنصلية الأميركية في بنغازي، بعد أشهر قليلة على انتصار الثوار الليبيين وسقوط نظام القذافي. وهو انتصار ما كان ممكناً لولا الدعم العسكري الأميركي المباشر.
وقبل ذلك، اختبرنا هنا في بيروت عام 2006، أفاعيل التحريض المنفلت من عقاله، حين دعى شيوخ وأئمة وأحزاب «إسلامية» إلى الاحتجاج على رسوم هزلية نشرتها صحيفة دانماركية، فتم اصطناع غضب عارم وشحن غرائز وحشد رعاع، هاجموا السفارة الدانماركية في حيّ الأشرفية فأعملوا فيها حرقاً، ثم انفجرت هستيريا الشغب والعنف، فعاثوا خراباً بالممتلكات العامة وهاجموا المارة وحطموا السيارات وأشعلوا الحرائق، ونشروا الرعب والإرهاب في هذا الجزء من العاصمة الذي تقطنه أغلبية مسيحية، وكللوا «غزوتهم» بالإعتداء على الكنائس القريبة. وترتب على هذه الحادثة آثار سياسية شديدة الوطأة على «التعايش» وسيكولوجيته الهشة. وتزامنت تلك الحوادث في أيلول 2006 أيضاً مع افتعال الأجهزة الأمنية السورية ومخابراتها لتظاهرة شبيهة في قلب دمشق، انتهت بإضرام النيران في المبنى الذي يضم سفارتي الدانمارك والنروج في العاصمة السورية، حيث يعرف الجميع كيف يتم فيها تدبير التظاهرات.
وكان الإمام الخميني، بُعَيد تجرعه «كأس السم» (أي قبول اتفاق وقف إطلاق النار، ونهاية الحرب الإيرانية العراقية)، قد أصدر في شباط 1989، فتوى بهدر دم الروائي البريطاني سلمان رشدي، مفتتحاً عهد القصاص الديني، الذي سرعان ما بات عرفاً شائعاً عند حركات الإسلام السياسي في العالم، كرّسته حركات الإرهاب والعنف، من أمثال «حزب الله» و»انصار الله» و»القاعدة» و»داعش» و»طالبان» و»حركة الشباب» الصومالية، وجماعات التكفير والهجرة في مصر ودول شمال أفريقيا..
وتسابقت طوال العقود الثلاثة، جماعات وأحزاب وتنظيمات ومرجعيات دينية إسلامية في حمى «التحريم» والقصاص، وفتاوى هدر الدم والخطف وقطع الأعناق والتفجيرات الإنتحارية وملاقاة «حوريات« الجنة، ورجم النساء وقتل تلامذة المدارس وأطفالها، واغتيال الصحافيين والكتّاب والسياسيين، قبل «غزوة نيويورك» 2001 وبعدها، وتفجير القطارات والأسواق في بغداد كما في مدريد ولندن.
ونجح الإسلام السياسي بأجنحته وأطيافه كلها في توطيد خطاب كراهية، لا يعرف سوى توليد الإرهاب وتبريره، بوصفه الرد الوحيد والمناسب على «الإساءة» المفترضة للإسلام ورسوله، وأن القصاص الدموي هو على سوية الإرتكاب المظنون.
وتأسس على هذا تناقض دائم بين الغرب والعالم الإسلامي، حيث ينحو الأول مبدأ حرية التعبير، والاحتكام إلى القانون والأعراف الديموقراطية، فيما نزع الجمهور الإسلاموي إلى مبدأ غامض هو «مشاعر المؤمنين» وشعار أكثر غموضاً هو منع «الإساءة».
في يوم الأربعاء الماضي، حين اقترف إرهابيون إسلاميون مجزرة «شارلي إيبدو» في قلب باريس، راح ضحيتها صحافيون فرنسيون، كان ردّ فعل سيدة لبنانية شديدة اللطف والدماثة، أن هذا جزاء من يتطاول على خاتم الأنبياء، متشفية بالضحايا: «هذا مصير الكفار». وتصريحها هذا المؤيد لفعلة الإرهابيين، ورغم تناقضه مع شدة تعاطفها مع ضحايا مجزرة المدرسة الباكستانية، أو تعاطفها العميق مع ضحايا مجازر بشار الأسد، إنما هو تناقض يكشف الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها قسم كبير من جموع المسلمين، الذين وإن استنكفوا أو امتنعوا عن أي فعل إرهابي، إلا أن وجدانهم ووعيهم السياسي يُستلهمان مباشرة من «خطاب الكراهية» الذي نشرته جماعات الإسلام السياسي طوال العقود المنصرمة، وتلكأت المؤسسات الدينية الرسمية عن مواجهته، بل سكتت عنه في معظم الأحيان، إن لم تنزلق أصلاً إلى منطق المزايدة في التشدد والغيرة الدينية. وعلى هذا تتكشف معضلة كبيرة بين منظومتي قيم: الأولى تُعلي من قدسية الحياة وحصانتها وتنحاز إلى «حرية التعبير» (بمعاييرها الغربية)، والثانية ترفع «مشاعر المؤمنين» (بمعاييرها الإسلامية) إلى مرتبة القانون الصارم، وتقدم مبدأ تحريم «ازدراء الأديان» على أي مبدأ آخر، ولو أدى ذلك إلى ازدراء حياة البشر وارتكاب القتل والإرهاب.
المعضلة بين «حرية التعبير» و»مشاعر المؤمنين» رغم انها بارزة بحدة بين العالم الإسلامي والغرب، إلا أنها أصلا معضلة قائمة داخل العالم العربي والاسلامي بالذات. فالإساءة إلى الدين والمقدس قد يصعب أحياناً كثيرة تعيين حدودها أو تفسيرها قانونياً بنص واضح، من دون الانزلاق إلى نزعة التحريم، التي ما ان تهيمن حتى تتحول الى «محاكم تفتيش» لا يسلم المؤمنون منها. فمن الموسيقى الى «مقابر الأولياء» إلى المسلسلات التلفزيونية، إلى فن النحت مثلاً، إلى كتابة الروايات على نسق ما كتبه نجيب محفوظ، الذي تلقى طعنة من «مؤمن» رأى في نصوص محفوظ كفراً. وفي خضم تصاعد النزعة المذهبية، فان كتباً دينية إسلامية يتم منعها في دول وهي مباحة في دول أخرى. وثمة مسلمون يستسهلون تكفير مسلمين آخرين لخلاف فقهي أو لاختلاف طقوسي.
مسلسل «عمر» (الذي عرض في شهر رمضان 2012) على أنه «حلال» كان عند مسلمين كثيرين «حراماً» ويمس مشاعرهم، طالماً أنهم شديدو الالتزام بحرفية تحريم التشخيص، خصوصاً النبي والصحابة والأئمة والخلفاء الراشدين.
ثم ان نزعة «التهذيب» أو التحريم، تخرج من الاطار الديني إلى الإطار السياسي والإجتماعي، فالتعبير الساخر الكاريكاتوري مثلاً في ظل الأنظمة العربية يجد نفسه أمام «مقدسات» السلطة الزمنية: الرئيس وزوجته، الوزراء، قواد الجيش والأمن... الخ. السلطة هنا ترتفع إلى مرتبة «دينية» من حيث التحريم والتعالي عن أي نقد. وهذا ما رسخ الثقافة الاستبدادية وعمّق الديكتاتورية على نحو جعل العالم العربي وبقاعاً واسعة من العالم الإسلامي «استثناء» مستعصياً على الديموقراطية والحريات.
المشكلة العميقة في نظام القيم عند الإسلام السياسي السائد في مجتمعاتنا، أن رسوماً ساخرة (لا تميت أحداً) تمس «مشاعر المؤمنين» جداً، في حين أن القتل الوحشي والعلني والجماعي، لا يحرك في تلك «المشاعر» ساكناً. وهذا بالضبط ما يفقرنا تعاطفاً من العالم ازاء نكباتنا وكوارثنا.
from منتديات السعودية تحت المجهر
0 التعليقات: